المقدمة:

      أحدثت المنصّات الاجتماعية وفي مقدمتها منصة إنستغرام تحولاتٍ جوهرية في منظومة صناعة الأخبار وتوزيعها، بحكم طبيعتها البصرية وسهولة التفاعل فيها، من خلال الصور القصيرة والفيديوهات والقصص التفاعلية؛ إذ لم تعد تقتصر على الترفيه والتواصل – كما كانت عليه في السابق – بل أتاحت أيضاً المجال لتصبح مصدراً يومياً لمتابعة المستجدات السياسية والاقتصادية والإنسانية.

      ومع تزايد المنافسة الرقمية، اتجهت القنوات الفضائية الكبرى إلى استثمار هذه المنصة لتقديم أخبارها بما يواكب طبيعة الاستخدام اليومي للجمهور، ولما تحمله من خصائص تتمثل بالآنية والتفاعلية، والتأثير المباشر؛ وفي هذا الصدد، تبرز قناتا الجزيرة و BBC العربية بوصفهما أحد أهم المؤسسات الإعلامية اللتان لهما حضورٌ كبير على منصة إنستغرام، بفعل ثلاثة عوامل رئيسة تتمثل في: كثافة النشـر، وترتيب أولوياته، واستمراريته، وتعدد صيغه.

      وتزداد أهمية هذه العوامل آنفة الذكر عند تناول الأحداث الكبرى مثل النزاعات والحروب، إذ تميل المؤسسات الإعلامية إلى تكثيف النشر حول قضايا بعينها، مثل الأوضاع الإنسانية أو المواقف الدولية أو العمليات العسكرية، في حين تتراجع موضوعات أخرى إلى مرتبة أدنى وأقل؛ وهنا تظهر سياسات التحرير باعتبارها من العوامل المؤثرة في تحديد ماذا يوضع في الصدارة من قضايا وموضوعات وماذا يُهمَّش؟

      وفي هذا الصدد تُعدّ الحرب على غزة 2023 من أبرز القضايا التي تصدّرت التغطيات الإخبارية على مستوى العالم، وقد انعكس ذلك بوضوح على حسابات إنستغرام لقناتي الجزيرة و BBC العربية، حيث تحوّلت إلى محطّ اهتمام كبير في التغطيات الإخبارية، وأفرزت حالة إعلامية مكثّفة ارتبطت بتطورات ميدانية متسارعة وأبعاد إنسانية وسياسية متشابكة.

      وتركّــز متابعة التغطية الإخبارية عبـــر المنصات الاجتماعية اليوم على كيفية توزيع الأخبار وترتيبها داخل الأجندة اليومية، حيث تمنح المؤسسات الإعلامية بعض القضايا موقعاً بارزاً من خلال كثافة الطرح وتكرار النشر وصياغة العناوين؛ وهذا مردّه إلى تأثر السياسات التحريرية بعدد مـن العوامــل التـي تشمـــل طبيعــة المؤســسة الإعلامية، وبيئتهــا المهنية، والجمهــور المستهدف، والسياق الإقليمي والدولي الذي تعمل فيه؛ حيث تسهم هذه العوامل مجتمعة في توجيه الأولويات الإعلامية وصياغة الأجندة الإخبارية لكل وسيلة، وهو ما قد يؤدي إلى تباين في ترتيب القضايا أو تنوع في أساليب عرضها.

      وعليه تسعى هذه الدراسة إلى استكشاف أولويات التغطية الإخبارية للحرب على غزة 2023 في كل من الجزيرة و BBC العربية على منصة إنستغرام، ومعرفة درجة التباين ومدى اختلاف الانتماءات والسياسات التحريرية بينهما.

مشكلة الدراسة:

      تشهد منصة إنستغرام توسعاً لافتاً باعتبارها منصة لنشر الأخبار، إذ تجاوز عدد مستخدميها ملياراً و700 مليون مطلع عام 2025 وذلك بحســب إحصــائيات (DataReportal,2025) وبحكـــم خصائصها وميزاتها البصـرية، تزايد اهتمام القنوات الفضائية باعتمادها عليها لإيصال تغطياتها لجمهور واسع من المتابعين والمستخدمين، من خلال ترتيب القضايا وإبرازها بما يوجّه انتباه المتلقين إلى أولويات محددة.

      وفي هذا الصدد طفت موضوعات  الحرب على غزة 2023 على العديد من الحسابات الإخبارية في منصة إنستغرام، ومن أبرزها حسابي قناة الجزيرة و BBC العربية، حيث تنوّعت الموضوعات التي جرى طرحها بين القضايا الإنسانية والعمليات العسكرية والمواقف الدولية، إلا أن هذه الموضوعات لم تُعرض على وتيرة واحدة أو بكثافة متساوية، فقد اختلفت مستويات النشـر والبروز البصـري، مثل: استخدام الريلز بدل الصور الثابتة، أو وضع قضية معينة في الغلاف الأول للكاروسيل، أو تثبيت بعض الأخبار في الـ (Highlights)، وفق منطق يتناسب مع استراتيجيات وسياسيات القناتين.

      وعليه، تكمن مشكلـة الدراســة في الحاجــة إلى معـــرفة كيف رتّبت قناتا الجزيرة وBBC العربية أولويات تغطيتهما للحرب على غزة عبر إنستغرام من خلال الكشف عن أوجه التشابه والاختلاف في السياسات التحريرية لديهما، وتوضيح كيف ساعدت منصة إنستغرام صياغة أجندة التغطية الإخبارية للقناتين لقضية محورية مثل الحرب على غزة 2023.

أسئلة الدراسة:

1. ما نسبة التغطية الخاصة بالحرب على غزة 2023 من إجمالي منشورات الحسابين على إنستغرام خلال فترة الدراسة، من حيث: كثافة النشـر اليومي أو الأسبوعي، وطبيعة التوزيع الزمني من حيث أنه مستمر أو على شكل موجات متقطعة؟

2. ما أبرز القضايا التي ركّز عليها حساب الجزيرة و BBC العربية على منصة إنستغرام في تغطية الحرب على غزة؟

3. ما الأنماط التحريرية الأكثر استخداماً في تغطية الحرب على غزة 2023، من حيث: الأخبار العاجلة، والتقارير المعلوماتية، والقصص الإنسانية، والتغطيات التحليلية؟

4. ما أبرز مؤشرات ترتيب الأولويات من حيث: تكرار النشر، ومساحة العرض، وموضع القضايا في النشر، وطبيعة صياغة العناوين النصية، ونوع اللغة البصرية المستخدمة في التغطية؟

5. ما الخصائص التقنية الأكثر استخداماً في تغطية الحرب على غزّة من حيث: خاصية القصص المثبتة Highlights، والمنشورات المثبتة Pinned، والروابط Link in Bio/Swipe Up، والرموز التعبيرية Emojis، في المنشورات المرتبطة بالحرب على                 غزة 2023؟

6. ما مدى نجاح ترتيب أولويات التغطية الإخبارية للحرب على غزة بالنظر إلى مستوى التفاعل الجماهيري مع المنشورات، من حيث: عدد الإعجابات، والتعليقات، والمشاركات، والمشاهدات، والعناصر التفاعلية؟

7. كيف تطوّر ترتيب الأولويات بمرور الزمن (من أكتوبر 2023 حتى فترة الدراسة)، وما الدلالات التي تكشفها الفروق الزمنية بين الحسابين؟

أهمية الدراسة:

• الأهمية العلمية: تسهم الدراسة في سد فراغ بحثي يتعلق بتحليل ترتيب الأولويات في التغطية الإخبارية عبر إنستغرام، مع التركيز على مؤسستين إعلاميتين بارزتين، هما الجزيرة وBBC العربية، ما يثري الأدبيات الخاصة بالإعلام الرقمي؛ ومن المأمل أن تساعد على توضيح الفروق بين السياسات التحريرية للقناتين في تناول قضية مركزية مثل الحرب على غزة2023، بما يكشف آليات الانتقاء والبروز في تغطية النزاعات.

• الأهمية التطبيقية: تمكّن نتائج الدراسة الباحثين والمهنيين الإعلاميين من فهم كيف تُبنى الأجندة البصرية على منصات التواصل، وما الأدوات الأكثر تأثيراً في إبراز القضايا وجذب الانتباه؛ تقدم نمذجاً لإجراءات تحليلية يمكن الاستفادة منها في أبحاث أخرى تتناول التغطية الإعلامية على المنصات الاجتماعية، خاصةً فيما يتعلق بفئات التحليل مثل الكثافة، البروز، النوع، الزمن، والوسوم.

أهداف الدراسة:

1. قياس نسبة التغطية الخاصة بالحرب على غزة 2023 من إجمالي منشورات حسابَي الجزيرة وBBC  العربية على إنستغرام، وتحديد كثافة النشر اليومي والأسبوعي وطبيعة التوزيع الزمني.

2. التعرف على القضايا الرئيسة التي ركّز عليها الحسابان في تغطية الحرب على غزة، وتحليل الأنماط التحريرية المستخدمة (الأخبار العاجلة، التقارير المعلوماتية، القصص الإنسانية، التغطيات التحليلية).

3. رصد مؤشرات ترتيب الأولويات في التغطية من خلال تكرار النشر، مساحة العرض، موضع القضايا في النشـر، صياغة العناوين النصية، ونوع اللغة البصرية.

4. دراسة الخصائص التقنية الأكثر استخدامًا في تغطية الحرب على غزة عبر إنستغرام، مثل القصص المثبتة (Highlights)، المنشورات المثبتة (Pinned)، الروابط (Link in Bio/Swipe Up)، والرموز التعبيرية (Emojis).

5. قياس مستوى التفاعل الجماهيري مع التغطية عبر مؤشرات الإعجابات، والتعليقات، والمشاركات، والمشاهدات، والعناصر التفاعلية.

6. تتبع تطور ترتيب أولويات التغطية بمرور الزمن منذ أكتوبر 2023 حتى نهاية فترة الدراسة، والكشف عن الفروق الزمنية بين الحسابين ودلالاتها.

نظرية الدراسة:

      قدّم علماء الإعلام عدداً من النظريات التي تفسر لنا الكيفية التي تؤثر فيها وسائل الإعلام على الجمهور والرأي العام، بما يساعد في توجيه الدراسات الإعلامية إلى مسارات بحثية مناسبة؛ ولعل ذلك يتجسد بشكل أساسي في تطبيقات وسائل الإعلام في المجتمع، وما تحدثه من تأثير في الجمهور والرأي العام (المشاقبة، 2011: 78).

نظرية ترتيب الأولويات Agenda Setting Theory

      تُعدّ نظرية ترتيب الأولويات من الطروحات التي تدرس العلاقات التبادلية بين وسائل الإعلام والجماهير، ومدى قدرة هذه الوسائل على تحديد القضايا وإعادة ترتيبها بحسب الأهمية السياسية والاقتصادية والاجتماعية وغيرها من القضايا (عبد الحميد، 2016).

      وقد جاءت الفكرة مستنـدة إلى مفهــوم "«جــدول الأعمال" فــي الاجتماعات؛ فكما يُحدِّد جدول الأعمال ترتيب البنود وفق أهميتها، تُمارس وسائل الإعلام وظيفة مماثلة عبر ما تبثه من برامج وما تطرحه من قضايا، فتُبرز موضوعات وتُهمِّش أخرى، وتُبسِّطها في ذهن الجمهور وتسلِّط الضوء على أحداث وشخصيات بعينها؛ وبين ما يُقدَّم للجمهور وما يتابعه، يميل المتلقي إلى تبنّي الأجندة المطروحة وما يصاحبها من إقناع (الحاج، 2020، ص.138-139).

      وقـد تمّ تقديم نظــرية ترتيب الأولـويات لأول مرّة فـي العام 1972، من قبل ماكســويل ماكومبس ودونالد شو Maxwell McCombs and Donald Shaw بوصفها أحد النظريات التي تدرس الرأي العام، وعملا على تطبيقها في الانتخابات الرئاسية الأمريكية لعام 1968 والتي في حينها خسـر الديموقراطي ليندون جونسون أمام منافسه الجمهوري ريتشارد نيكسون؛ وكانت تعرف هذه الدراسة بدراسة "تشابل هيل"، حيث قام ماكومبوس وشو بمسح (100) مفردة من سكان تشابل هيل بولاية نورث كارولينا، حول ما يعتقدون أنّه أهم القضايا في الانتخابات الرئاسية، وكيف كان ذلك مقارنة بما نقلته وسائل الإعلام المحلية والوطنية كأهم القضايا التي تناولتها الانتخابات الرئاسية الأمريكية (McCombs & Shaw, 1972).

      وترتكــز النظرية على نقطة رئيسية مفادها أنّ وظيفة الإعلام هي العمــل على تشكيل اتجاهات الرأي العام من خلال التركيز على قضايا معيّنة؛ وبذلك فإنّ وسائل الإعلام تضع في أولوياتها الرسائل التي تريد من خلالها إخبارك بما يجب عليك التفكير به، على الرّغم من أنّه ليس بالضـرورة أن تكون هذه الأخبار أو الرسائل الإخبارية هي بالضبط ما يجب عليك التفكير به (Freeland, 2012, p.2).

      وعليه فإنّ الجمهــور المتابع للوسائل الإعلامية يعتقــد أنّ القضية المطروحة هي قضية مهمة، لأنّ الوسيلة الإعلامية وضعتها في أولى نشراتها الإخبارية وركّزت عليها.

      وترى هذه النظرية أنّ الإعلام هو الذي يهيمن على صناعة الصور في أذهان المتابعين، وأنّ ردّ فعل المتابعين يكون تجاه تلك الصور وليس تجاه الأحداث الفعلية، ولذا فإنّ هذه النظرية تهدف إلى إعادة صياغة الأحداث وتبسيطها إلى نماذج معينة قبل أن يتعامل معها الجمهور المتابع وقبل أن يعطي انطباعات حولها؛ حيث تعمل على خلق وعي عام لدى الجمهور واهتمام بالقضايا التي تبرزها وسائل الإعلام؛ وبالتالي تفترض هذه النظرية McCombs (2011: 298):

• أنّ وسائل الإعلام لا تعكس الواقع، وإنّما تقوم بترشيحه للجمهور وتشكيله وفق الأجندة المدرجة على جدول ترتيب الأولويات للمؤسسة الإعلامية.

• أنّ التركيز الإعلامي على قضية ما ولو كانت صغيرة يقود الجمهور إلى إدراك أنّ هذه القضية أكثر أهمية من القضايا الأخرى.

• في اختيار وعرض الأخبار، يؤدي المحررون وموظفو غرف الأخبار والمذيعون دوراً مهماً في تشكيل الواقع السياسي.

• لوسائل الإعلام تأثير قوي على العامة أو الجمهور المتابع للموضوعات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وغيرها من الموضوعات.

• تقوم وسائل الإعلام بتحديد القضايا المهمة حسب وجهة نظرها أو سياستها التحريرية حتى لو كانت هنالك موضوعات ذات أهمية أكبر من وجهة نظر وسيلة إعلامية أخرى.

• تقوم وسائل الإعلام بوضع "جدول الأعمال" لجذب انتباه الجمهور إلى تلك المجموعة الصغيرة من القضايا التي يتشكل حولها الرأي العام.

      ووفقاً لهذه النظرية فإنّه لا يقتصـر تأثير الإعلام على الخطوة الأولية، وهي تركيز انتباه الجمهور على موضوع معين، وإنّما تؤثر وسائل الإعلام أيضاً في الخطوة التالية لعملية التواصل وفهمنا ومنظورنا حول الموضوعات والقضايا التي تطرحها وسائل الإعلام وبالتالي تزيد من ردّة فعل الجماهير تجاه هذه القضايا بالشكل المراد الوصول إليه (McCombs, 2011: 301).

      ويعتقد بعض العلماء أمثــال إيفريت روجرز وجيمــس ديرينج Everett Rogers and James Dearing (1988: 559)، أنّ نظرية ترتيب الأولويات لها ثلاثة أنماط إذا ما تعلقت بوسائل الإعلام، وهذه الأنماط هي عبارة عن علاقات تبادلية بين الوسيلة والجمهور، وتمثل بـ:

• ترتيب الأولويات بشكل عام: وهذه تخضع لاستمزاج آراء الجمهور المتابع.

• ترتيب أولويات وسائل الإعلام نفسها: وهي خاضعة للسياسة التحريرية للمؤسسة الإعلامية.

• ترتيب الأولويات السياسية: وهي القضايا التي تثيرها الحكومات وصنّاع السياسة، وهو ما يعرف بالأجندة السياسية.

     ويـرى ماكومبوس McCombs (1992: 813-824) أنّ البحـوث التي تناولت "الأجندة" كانت تركّز بشكل عام على العلاقة الارتباطية بين الترتيب الناتج لمفردات المحتوى من خلال التحليل، والترتيب الذي يقدمه الجمهور من وجهة نظره، من خلال الإجراءات المنهجية للمسح، وبناءً على نتائج هذه العلاقة في معظم الدراسات تقريباً، تبيّن تأثير وسائل الإعلام على بناء أجندة اهتمامات الجمهور بالقضايا والموضوعات المطروحة.

      ومما سبق فإنّ التأثير الذي تقوم به الأجندة يؤكد على أنّ هذا التأثير يتعدى الإدراك على المستوى الفردي إلى الإدراك على المستوى الجمعي، مما يعني القدرة على توجيه اهتمامات الجمهور نحو القضايا والموضوعات المختلفة.

      وهناك اتجـــاهان متعارضــان يفســران العــلاقة وقيام التأثير يلخصها ريتشارد كارتر وآخرون Carter, et al (1992: 869) بمايلي:

• الاتجاه الأول: يتبنى وجهة نظر حارس البوابة، والذي يرى أنّ الوسيلة الإعلامية لها قوّة في مراقبة ومتابعة واختيار الموضوعات والقضايا والأحداث، وأنّ نتائج الاهتمام الانتقائي لوسائل الإعلام تظهر غير كاملة ومتحيّزة تجاه إحساس المتابعين بالحقيقة، وهذا الاتجاه يشير إلى قوّة وسائل الإعلام.

• الاتجاه الثاني: ينظر إلى الوسيلة الإعلامية باعتبارها وكيلة عن الجمهور المتلقي، حيث تعمد الوسيلة الإعلامية إلى تتبع جماهيرها ومعرفة القضايا أو المشكلات العامة التي تعلق بهم، ومن ثمّ تقوم بإيجاد الحلول الممكنة، مما يعني أنّ الجمهور هو من يحدد ترتيب الاهتمامات في وسائل الإعلام.

      ومن المنطلقات السابقة فإنّه يمكن القول بأنّ منصة إنستغرام أصبحت إحدى الفضاءات المهمة في عرض الأخبار من خلال صيغ بصرية قصيرة وسريعة مثل الصور والكاروسيل والريلز، الأمر الذي دفع غرف الأخبار إلى إعادة تشكيل الرسائل الإعلامية بما يتناسب مع منطق المنصة القائم على الاختصار والإيقاع السريع والوضوح البصري؛ حيث أفرز هذا التحول أنماطًا تحريرية جديدة تقوم على التلخيص، وتقسيم القصص إلى شرائح متتابعة، وإعادة ترتيب الأولويات فيما يُعرض أولاً وما يُؤجَّل؛ وهي آليات تضبط بروز القضايا على نحو ينسجم مع منطق ترتيب الأولويات في مستواه الأول من حيث إبراز القضايا بين الأكثر أهمية أو الأقل أهمية (Vázquez-Herrero, 2019).

      ومع هذه التحولات باتت الثقة في المحتوى الإخباري على المنصة مرتبطة بمدى إبراز القضية وسياقها العام الذي تعرض فيه، فـالخبرة المدركة تعمل بوصفها مفتاحاً يدخل القصة إلى أجندة المتابع، ويزيد نية التفاعل معها (الشـريف، 2022)؛ ولذا فإنّ التغطيات الإخبارية عبر إنستغرام تشتمل أنماط يطغى عليها التحليل والتفسير وإثارة القضايا، مع حضور فاعلين رسميين في صدارة الأخبار، وإجراء تحديثات متتابعة ووسوم منظَّمة وأساليب تمهيد بصري تزيد من التفاعل (الفيصل، 2023، ص.182).

      وقد ظهر توظيف متقدم في مجال "صحافة البيانات المصوّرة" من خلال تقديم مضامين سياسية وإنسانية في صيغ مركزة تدعم فرضية أن الأجندة الإعلامية باتت تُصاغ بمنطق المنصة (de-Lima, 2022, p.2821)؛ ومع اندلاع حرب غزة 2023، تحوّل إنستغرام إلى ساحة تعج بالنشاط الرقمي البصـري، حيث أُعيدت صياغة سرديات النزاع ضمن صور وريلز وكاروسيل أبرزت موضوعات مثل الضحايا والمساعدات والمواقف الدولية، بما يعكس أولوية بعض المضامين على حساب أخرى؛ وهو ما عزز بالتالي من مكانة المنصة باعتبارها أداة لإعادة تشكيل أولويات المتابعة وترتيب القضايا المطروحة.

      ويتضح لدى الباحث من خلال ما سبق، أنّ هذا النمط من التلقي في كونه يرتبط بزيادة المعرفة بالشؤون الجارية وارتفاع مستوى الثقة بالمصادر، يمنح الدراسة الحالية مبرراً علمياً لاعتبار التعرّض الفعلي للمحتوى الإخباري على المنصة متغيراً رئيساً في دراسة ترتيب أولويات التغطية الإخبارية للحرب على غزة 2023 في الجزيرة و BBC العربية على منصة إنستغرام.

الدراسات السابقة:

      هدفت دراسة محرم (Moharam, 2025) إلى تحليل أُطر التمثيل البصـري على حساب الأونروا الرسمي في إنستغرام خلال المئة يوم الأولى من الحرب على غزة (7 أكتوبر 2023–15 يناير 2024)، باعتماد تحليل المضمون والأطر الإعلامية؛ وخلصت النتائج إلى أن الصور كانت أكثر أشكال المحتوى انتشاراً، حيث برزت صور الأخبار/التقارير التي تُصوّر الدمار والمساعدات، كما اعتمدت الأونروا على مقاطع فيديو تُظهر مسؤولين فيها يتفاعلون مع قنوات إعلامية دولية، مثل سي إن إن والجزيرة وبي بي سي، وقد نجحت زوايا الكاميرا وأحجام اللقطات واختيارات الإضاءة في نقل التأثير العاطفي للنزاع بفعالية، مع التركيز بشكل خاص على الفئات المستضعفة، مثل الأطفال والنساء وكبار السن، لتسليط الضوء على الأزمة الإنسانية.

      أما دراسة كورديرو وآخرون (Cordeiro et al, 2025) فقد هدفت إلى تحليل استراتيجيات المحتوى ومستويات التفاعل على إنستغرام لدى خمس مؤسسات إعلامية تقليدية كبرى في الولايات المتحدة والمملكة المتحدة (نيويورك تايمز، الغارديان، يو إس أي توداي، الإندبندنت، واشنطن بوست). اعتمد الباحثون على تحليل كمي لأكثر من 9000 منشور نُشـرت خلال عام 2023، فقد أظهرت النتائج اختلافات واضحة في استراتيجيات النشـر والتفاعل، حيث تميزت واشنطن بوست بكثافة النشـر، بينما اعتمدت الغارديان على استراتيجية انتقائية أكثر، مع إبراز أهمية التناسق الموضوعي والاستخدام المدروس للوسوم والإشارات لتعزيز التفاعل مع الجمهور.

      في حين هدفت دراسة (سيد، 2025) التعرف إلى كيفية معالجة القضية الفلسطينية بصـرياً عبر حسابات ثلاث قنوات هي: BBC Arabic وSky News Arabia والقناة الأولى المصرية، خلال الفترة الممتدة من 7 أكتوبر 2023 وحتى 7 يناير 2024، وقد اعتمدت الدراسة على منهج تحليل المضمون للمنشورات المصوّرة والمرئية، وكشفت النتائج عن تباين في أسلوب التناول البصري، حيث ركزت BBC Arabic على الإطار الإنساني وإبراز صور الضحايا، بينما مالت Sky News Arabia إلى الإطار الأمني والسياسي، في حين أظهرت القناة الأولى المصـرية حضوراً محدوداً على المنصة، وأنّ هناك ضعفاً في توظيف أدوات إنستغرام التفاعلية مثل القصص في إيصال الرسالة الإعلامية بشكل فعال.

      وأجرى (محمود، 2024) دراسة هدفت إلى فهم التغطية المصورة لأحداث الحرب على غزة عبر الحسابات الإخبارية، من خلال التحليل السيمولوجي للعلامات الظاهرة في المنشورات الإخبارية المعروضة على حساب الجزيرة وحساب CNN بالعربية على إنستغرام، وقد توصلت نتائج الدراسة إلى أنّ الجزيرة تفوق CNN بالعربية من حيث كثافة المحتوى فيما يتعلق بالحرب على غزة، حيث جاءت الصور المتحركة في المرتبة الأولى، تلاها البوستر الإخباري، ثم الصور الثابتة، وأكدت نتائج أن كلا الحسابين لم يستخدما الصور الشخصية، وجاء الاهتمام بالفيديوهات الحية بنسبة أكبر لأنها أفضل وسيلة لإظهار الحرب للجمهور بشكل واقعي ومحايد، و اعتمدت كلا من الجزيرة و CNN بالعربية  في المقام الأول على نشـر الأخبار الصادرة منه والحصـرية المنقولة من مراسليهم لأن طبيعة القضية تحتاج لمصداقية وشفافية.

      وتناولــــت دراسة ساتخـد وآخــرون (Satkhed,2025) تحليل 75 منشوراً تمثلت بـ(صور/ ريلز/ كاروسيل) عن القضية الفلسطينية على إنستغرام بين أكتوبر 2023 ويونيــو 2024؛ حيث استخدمت الدراسة تحليل المضمون مع منظور التأطير لفهم كيف يَصوغ المستخدمون المؤثرون السرديات بعد 7 أكتوبر، وقد أظهرت النتائج بروز أطر مثل: إطار الضحية والإنقاذ، وإطار المقاومة والهوية، وأنّ هناك اختلافاً وتحولاً في كثافة التغطية الزمنية عما كانت عليه بداية الأحداث، وانتقائيةً في العناصر البصـرية التي تظهر الأطفال، النزوح، صفوف الإغاثة.

      وهدفت دراسة المصـري (Elmasry, 2024) إلى تحليل محتوى القنوات الغربية على منصة إنستغرام مثل:(MSNBC, Sky, Fox, CNN, BBC)  في الأيام الأولى من الحرب الخامسة على غزة والتي بدأت في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023؛ حيث أشارت النتائج إلى أن التغطية الإعلامية الغربية عبر إنستغرام كانت مؤيدة لإسرائيل بشكل قاطع؛ وقد فضّلت هذه القنوات، التي أجريت عليها الدراسة، باستمرار المصادر الإسرائيلية والمؤيدة لإسرائيل على المصادر الفلسطينية والمؤيدة للفلسطينيين؛ وسلطت الضوء على الضحايا الإسرائيليين، بينما أهملت الضحايا الفلسطينيين؛ وصوّرت العنف الإسرائيلي على أنه دفاع عن النفس، بينما صوّرت العنف الفلسطيني على أنه عدوان.

      في حين هدفت دراسة كايلو وماينبا (Kallio & Maenpaa, 2025) إلى فهم الكيفية التي توظّف بها المؤسسات الإخبارية منصة إنستغرام لإنتاج محتوى صحفي موجه لجمهور أصغر سناً يعتمد بشكل أساسي على الوسائط الاجتماعية لمتابعة الأخبار، وقد اعتمد الباحثان على مقابلات مع مختصين في الإعلام الاجتماعي بالإضافة إلى تحليل نوعي لمنشورات وصور وفيديوهات قصيرة (ريلز) صادرة عن مؤسسات إعلامية فنلندية، حيث خلصت النتائج إلى تحديد ثلاث فئات رئيسية مرتبطة بالجانب البصـري في صناعة الأخبار على المنصة: التكيّف (تكيف استراتيجي مع خصائص إنستغرام)، التكثيف (تبسيط واختصار المحتوى الإخباري)، وجذب الانتباه (انتقائية بصـرية موجّهة نحو جماهير محددة)، كما أشارت النتائج إلى استحواذ الطابع البصـري على إنستغرام والذي بدوره أسهم في تشكيل نمط جديد من السـرد الصحفي يقوم على الاختصار والانتقائية والاعتماد على الصورة.

      في حين هـدفت دراسة جوركا (Gorka,2024) التعــرف إلى وسائــل التواصــل الاجتمــاعي بوصفها أحد أبعاد الحرب المعاصرة، من خلال تحليل الصـراع في قطاع غزة بعد 7 أكتوبر 2023؛ حيث أظهرت النتائج أنّ الصـراع في الشرق الأوسط، بعد 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، قد ولّد كمية غير مسبوقة من المواد المرئية في الفضاء الإلكتروني، حيث أظهرت الحرب كيف يشترك طرفا الصراع ومناصروهم في مصلحة مشتركة في تقديم محتوى رسومي لإثارة الغضب أو كسب التعاطف مع قضيتهم، وأنّ ذلك أدّى إلى نوع من التسابق على الصور الأكثر تطرفًا، من خلال مقاطع الفيديو والصور المنشورة على شبكات التواصل الاجتماعي.

      وحلّلت دراسة ناصر الدين (Nasereddin, 2023) أثر منصّات التواصل الاجتماعي، وخاصة إكس وإنستغرام على الرأي العام الدولي في حرب غزة 2023، متبعة المنهج التفسيري لدور الصور القصيرة والقصص الشخصية في تشكيل التصوّرات والسياسات الرمزية؛ حيث أظهرت نتائج الدراسة أن إنستغرام عزّز من التضامن المرئي عبر المشاهدات المباشرة على المعاناة، ورفع من حالة التجاهل لدى وسائل الإعلام والحكومات، مع استمرار اختلالات الوصول الخوارزمية، رغم شمولية المنصات، وفعاليتها في نقل الأحداث، وذلك بسبب الأولويات التحريرية والسياسات التي تتبناها المؤسسات الإعلامية والحسابات المؤثرة على إنستغرام خلال الذروة الأولى للحرب.

      وأجرت (ممو، 2023) دراسة هدفت إلى رصد وتحليل المعاني الدلالية المتضمنة في الصور التي نشرها الصحفي والمؤثر الفلسطيني معتز العزايزة عبر حسابه على منصة التواصل الاجتماعي إنستغرام، وذلك في سياق إدانته للعدوان الإسرائيلي على قطاع غزة منذ تاريخ 07 أكتوبر 2023، من خلال الاعتماد على التحليل السيمولوجي لاستكشاف المعاني على المستويين التعييني والتضميني، مع التركيز على تحليل الرموز والألوان من جهة، وكذلك رصد وتحليل تفاعلية المتابعين لصفحة الصحفي معتز العزايزة والذين وصلوا مع حلول شهر نوفمبر إلى 13مليون متابع عبر منصة إنستغرام، أثبتت نتائج الدراسة أن الصورة ليست مجرد تمثيل بصري بل هي تجسيد معقد للرموز والعلامات التي تحمل معان متعددة، وأن الصحفي العزايزة نجح في استخدام منصة الإنستغرام بشكل فعّال للتأثير على الرأي العام العالمي بشأن القضية الفلسطينية.

      وهدفــت دراسة رياض (Riaz, 2021) إلى استكشاف الــدور الذي تؤديــه وســائل التــواصل الاجتماعي في تشكيل الصراعات المعاصرة، مع التركيز على كيفية استخدامها في تأجيج الانتفاضات المدنية، وما يترتب على ذلك من تحولات في ديناميات النزاع، وإلى تحليل توظيف التنظيمات المسلحة والجماعات المتمرّدة لهذه المنصّات لخدمة مصالحها الخاصة؛ حيث توصلت النتائج إلى أنّ وسائل التواصل الاجتماعي لم تعد مجرد وسيط ناقل للأحداث، بل أصبحت فاعلاً في حد ذاتها عبر خلق ما يُسمّى بـ "المجال العام للمتمرّدين"، وهذا  بدوره يمنح الحركات الاحتجاجية والجماعات المهمّشة قدرة أكبر على التأثير في الشأن الدولي، ويساهم في إعادة تعريف أبعاد الصـراع السياسي والاجتماعي.

      بينما سعـت دراسة الراوي وآخرون (Al-Rawi et al, 2021) إلـى فحـص القيـم الإخبارية في المحتوى الدولي المنشور على إنستغرام، من خلال توظيف نظرية القيم الإخبارية بمزيج من التحليل الكمي (تحليل المحتوى) والتحليل الآلي (نمذجة الموضوعات)، وإلى مقارنة الموضوعات الأكثر تفاعلاً وإعجاباً من قِبل جمهور إنستغرام مع الموضوعات التي تركّز عليها المؤسسات الإخبارية في تقاريرها، حيث أظهرت النتائج أنّ جمهور إنستغرام يفضّل الأخبار العامة وقصص الاهتمام الإنساني والموضوعات ذات الطابع الإيجابي، على عكس المؤسسات الإخبارية التقليدية التي تميل إلى التركيز على السياسة والقضايا الجادة، وتبرز هذه الفجوة أهمية إدراك اختلاف أولويات الجمهور الرقمي عن أولويات غرف الأخبار التقليدية، بما يفرض إعادة النظر في استراتيجيات النشر على المنصات الاجتماعية.

تتمثل القيمة المضافة للدراسة الحالية في:

1. تركيزها على ترتيب الأولويات بخلاف الدراسات التي تبحث في المعالجات الإخبارية والتأطير الإخباري، حيث إنّ الدراسة الحالية تركز على مؤشرات كمية وكيفية قابلة للقياس.

2. المقارنة الثنائية المباشرة بين حسابَي الجزيرة وBBC  العربية على إنستغرام، في قضية واحدة محددة، وهي الحرب على غزة 2023.

3. البعد الزمني في تحليل التغطية، ورصد التحولات في القضايا والبروز مع تطور الأحداث في الحرب على غزّة 2023.

4. دمج الجوانب التحريرية مع الخصائص التقنية لإنستغرام لفهم كيف تتجسد السياسات الإعلامية عبر أدوات المنصة.

منهج الدراسة:

      اعتمدت الدراســة على المنهــج المسحــي، باستخــدام أسلـوب تحليل المحتـوى الكمـي والكيفي، وذلك لرصد طبيعة التغطية الإخبارية للحرب على غزة 2023 في حسابَي الجزيرة وBBC العربية على إنستغرام؛ حيث أتاح هذا المنهج للدراسة الحالية إمكانية تحليل الأولويات وفق مؤشرات كمية تتمثل في (التكرار، والكثافة، والتوزيع الزمني) وكيفية (الأنماط البصرية والتحريرية)، وقد ساعد هذا في إمكانية تقديم تفسيراتٍ علمية للسياسيات التحريرية للمؤسستين.

أداة الدراسة:

تمثلت الأداة باستمارة تحليل محتوى صممت وفق فئات التحليل الرئيسة:

1. القضايا (الجانب الإنساني، العسكري/الأمني، الدولي، السياسي، الحياة اليومية، التفاعل الشعبي).

2. مؤشرات ترتيب الأولويات (تكرار النشر، مساحة العرض، موضع القضايا، صياغة العناوين، اللغة البصرية).

3. الخصائص التقنية لإنستغرام Highlights، Pinned، الروابط، Emojis.

4. الأنماط التحريرية: (خبر عاجل، تقرير معلوماتي، قصة إنسانية، تغطية تحليلية).

5. التفاعل الجماهيري (إعجابات، تعليقات، مشاركات، مشاهدات، عناصر تفاعلية).

مجتمع الدراسة:

      يتكون مجتمع الدراسة من جميع المنشورات المرتبطة بالحرب على غزة 2023، المنشورة على الحسابات الرسمية: الجزيرة @aljazeeraarabic و BBC العربية @bbcarabic؛ وذلك خلال الفترات الزمنية المحددة للتحليل، ويشمل مختلف أشكال المحتوى: (صور، ريلز، كاروسيل، قصص مثبتة).

العينة الزمنية للدراسة:

      تم تحديد العينة الزمنية علـى ثـــلاث مراحل رئيسة تعكــس تطــور التغطية الإخبارية عبــر إنستغرام لحسابي الجزيرة و BBC العربية:

جدول (1) العينة الزمنية لمنشورات الجزيرة و BBC العربية على إنستغرام للحرب على غزة 2023